الرئيسة    الفتاوى   مسائل متفرقة   تفطير الصائم بإعطائه مبلغا من المال

تفطير الصائم بإعطائه مبلغا من المال

فتوى رقم : 21310

مصنف ضمن : مسائل متفرقة

لفضيلة الشيخ : سليمان بن عبدالله الماجد

بتاريخ : 08/09/1439 12:32:33

س: يا شيخ .. من فطر صائما .. هل لا بد أن يكون طعاما؟ وهل إذا أعطيته مبلغا من المال أحصل على نفس أجر الإطعام؟ وهل يحصل الأجر بإطعام الأغنياء؟

ج: الحمدلله وحده أما بعد..
فقد جاء في ذلك حديث زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ عَن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: مَنْ فَطَّرَ صَائمًا، كانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أجْر الصَّائمِ شيءٍ".
رواه الترمذي، وصححه جمع من المحدثين المتقدمين والمتأخرين، وضعفه جمع لا يقل عنهم من المتقدمين والمتأخرين؛ كما أن الحجج بين الفريقين في ذلك قريبة جدا من التكافؤ، والقاعدة: أن أن ما حصل الشك في صحته من الأحاديث فإن الأصل التوقف في حكمه؛ فنبقى على أصل عدم وروده حتى يحصل ترجيح.
وعدم صحة الحديث لا تعني نفي فضل الإطعام للمجتاجين.
وأما التفطير الذي يتحقق به امتثالُ النص وأثرُه فهو ما اُعتبر إفطارا في اللغة وفي مصطلح الناس، وهو الوجبة المشبعة؛ كالإفطار الصباحي الذي نقل منه الإفطار المسائي للصائم بجامع أن كلا منهما يفطر به البطن أي يشق ويصدع ؛ فكأنه كان قبل هاتين الوجبتين ملتئما من طول الإمساك عن الطعام ففُطر، وليس هو الفطر الذي يحصل به نقض الصوم وإفساده؛ لأن هذا استعمال فقهي لا استعمالا عاما؛ ولهذا لا أعلم من قال بحصول أجر التفطير بحبة الأرز رغم أنها مفطرة حكما؛ فعليه لا يكون إلا بما يطرد الجوع من أدنى الشِبع فأكثر؛ إلا عند الضيق والقلة.
والأظهر أنه لو أعطاه من النقد قيمة وجبة الإفطار كان له ذلك الأجر؛ لأن التفطير معقول المعنى؛ بخلاف صدقة الفطر ونحوها.
وأما شمول الحديث لتفطير الأغنياء الذين يُعلم غناهم فالمناطات المحتملة للتأثير في شمول الحديث لغير المحتاج للوجبة أو عدم ذلك التأثير مناطان:
المناط الأول: اعتبار دلالة اللفظ هنا بحصول مطلق الإطعام لأي صائم فيكون مطلقا في الأشخاص فيشمل حتى غير المحتاجين لوجبة الإفطار، فالظاهر أن من اعتبر هذا المناط مؤثرا أن الأمر عنده تعبدي محض؛ فيكون حصول الإطعام لأي صائم موجبا لهذا الأجر؛ حتى لو كان آكله غير محتاج، وعليه يحصل الفضل الوارد في الحديث حتى بإطعام الأغنياء؛ ممن يجدون إفطارهم؛ فيكون الأمر عند من اعتبر هذا المناط في التفطير= دائرا على إدخال السرور على مسلم غني، أو قصد الشريعة إلى صورة الاجتماع على مائدة الإفطار، أو لأجل فضل زمن الصوم تعبدا؛ كفضل مكة والمدينة مكانا في تعظيم الأجور، وفضل رمضان زمانا في مضاعفة أجر الصلاة والتلاوة والصدقة.
والمناط الثاني: أن المقصود هو سد حاجة المحتاج فقيرا كان أو غنيا ممن لا يجد وجبته في وقت قريب كالمنقطع وابن السبيل؛ فهو من جنس إطعام الطعام لمن يحتاجه، لكن عظُم الفضل في وجبة الإفطار أكثر من مجرد إطعام غير الصائم لأن الفقير والمنقطع ونحوهما يجدون مشقة أكثر في إيجاد طعامهم وشرابهم، وفي صنعهما وقت الصيام أكثر من غيره من الأوقات والأحوال.
والمتأمل في هذا يجد أن من قال بالظاهر والحقيقة التعبدية المحضة أنه أجراها في أمرٍ الأصل فيه التعقل ومعرفة المعنى؛ وهو الأكل والشرب، وقد وُجد من القرائن ما يدل على عدم توجه ذلك ومنه:
1.أنه لا يوجد في الشريعة نظائر تدل على فضل التبرع للأغنياء بل عده العلماء ضربا من فضول التصرفات المالية، ورأى جمع منهم كالحنابلة واختيار ابن تيمية أن الوقف على الأغنياء وعلى المباح لا ينعقد فلا بد أن يكون في قربة، ومن رأى انعقاده اعتبره من جنس المباحات لا المستحبات، ومن المعلوم في الأصول أن المباح نفسه لا يُثاب فاعله؛ إلا لأمر خارج عنه؛ كاعتباره وسيلة إلى مستحب.
وعدم النظائر يجعل الشيء غريبا عن الشريعة.
وأما طعام الصلة وتأليف القلوب ففيه فضل عظيم للأغنياء فضلا عن الفقراء، ولكن يحصل المراد به وقت الصيام وغيره.
2.أن هذا الفضل العظيم الوارد في فضل التفطير لو كان شاملا للأغنياء فلا بد أن يعقبه هديٌ عمليٌ ظاهر من النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عملٌ متكاثر من الصحابة يبعد -لو وُجد- أن لا يُنقل ولو القليل منه، ولا يُعزى هذا إلا أن إطعام الطعام لمن يحتاجه كان هديهم في كل وقت، وأنهم لم يجدوا لرمضان معنى جديدا حتى يزيدوا فيه؛ لأن الأمر عندهم معقول وهو الحاجة إلى ذلك الطعام.
وحتى يتضح ذلك قارن التفطير بتلاوة القرآن فإنها فضيلة في كل زمن، ولكن لما كان المعنى فيها تعبديا وثبت الحديث الخاص بفضلها في رمضان= وجدتَ النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وسلف الأمة يكثرون من ذلك؛ بل كان منهم من يدع التعلم والتعليم في رمضان لأجل الانقطاع إلى الأعمال الفاضلة فيه ومن أعلاها تلاوة القرآن؛ فالزيادة في التلاوة مما تتوافر الهمم والدواعي عل نقلها، ولهذا نُقلت بما يشبه التواتر.
ويقال هنا في تفطير الأغنياء أنه لو كان كان مقصودا للسلف لمن لا يحتاج هذه الوجبة لتوافرت هذه الأسباب على نقله؛ بل إن نقل التفطير لو كان على الصورة التي يفعلها كثير من الناس اليوم= أولى في توافر النقل من التلاوة؛ لأن نفع التفطير متعد، وفضل التلاوة قاصر على صاحبه.
3. أن الأحوال التي كان عليها الناس معتبرة في تعيين المراد وتوضيح المقصد؛ فالغالب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو ظهور حاجة الناس إلى الطعام فتوجيه الحديث على حال الفقر والحاجة هو أقرب ما يُحمل عليه الحديث.
ونظير ذلك ما رآه طائفة من العلماء في معنى العموم الوارد في حديث النهي عن المزارعة أنه ليس على عمومه بل على خصوص المزراعة على الناحية لما فيها من الغرر والجهالة بين الشريكين، رغم أن طائفة كثيرة من العلماء قالوا ببطلانها جملة ما لم تكن -عند بعضهم- مع المساقاة؛ استدلالا بالعموم، وكان ضمن حجج من قال بالجواز بالنسب المشاعة: أن المزراعة حينذاك كانت على الناحية فورد الحديث في النهي عنها، ولم يقولوا لأجل ذلك بدلالة العموم.
هذا ولا يبعد قول من رأى أن هذا الفضل كان محمولا على الحاجة العامة الكثيرة إلى التفطير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أنها في موضع سد الحاجة معقولة المعنى وليست التعبدية.
4.أن المنقول من هدي السلف في رمضان كان في إطعام الطعام الذي يُقصد به المحتاج فقد ذكر ابن رجب رحمه الله في "اختيار الأولى" (ص78) عن كثير من السلف من كان: (..يؤثر بفطوره وهو صائم ويصبح صائما، منهم: عبد الله بن عمررضي الله عنهما وداود الطائي، وعبد العزيز بن سليمان، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل وغيرهم. وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة)أهـ.
والإيثار بالطعام لا يكون إلا لمن يحتاجه؛ فهذا ما نُقل عن السلف.
فعلى ذلك من أراد الأجر الوارد في هذا الحديث فليتحر الفقراء والمحتاجين، والأماكن التي يكثر في العمال الذين يكون مأواهم بعيدا وفي الغالب تكون تكاليف إقاماتهم عليهم ويحتاجون معه إلى وجبة جاهزة؛ كالذين يعملون في بناء المنازل وإصلاح الطرق وأماكن المسافرين ونحوهم.
ولو كانت مشروعات التفطير موجهة للفقراء سواء كان ذلك في بيوتهم أو بإعطائهم قيمته نقدا أو عينا نيئا يكون لهم سعة في الانتفاع منه، فإنه يُعفي من الكثير من الجهود البدنية والمالية التي تصاحب مشروعات التفطير؛ إذْ لا يشك أحد أن قريبا من نصف قيمة وجبات الإفطار في تلك الموائد يتمكن بها المحتاج إليها من صنع طعامه في بيته بنفس القدر الذي نسد بها حاجته بالطعام المطبوخ؛ لأننا وفرنا ما يزيد في قيمة الطعام المطبوخ من ربح المطاعم وأجور العاملين في الإشراف على تلك المشروعات، ويمكن بذلك صرف هذه الهوامش المفقودة في سلال غذائية؛ فتكون أخف تكلفة وأقل هدرا وأوسع وقتا وأكثر فائدة للمحتاجين وأعظم أجرا للمتبرعين. والله أعلم.