سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة حد الردة على المنافقين
فتوى رقم : 17321
مصنف ضمن : الجنايات والحدود
لفضيلة الشيخ : سليمان بن عبدالله الماجد
بتاريخ : 02/05/1434 03:22:50
س: ما هو سبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة حد الردة على المنافقين؟ وهل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحكم بعلمه أم هي البينة أم أنه المصلحة؟
ج: الحمد لله أما بعد .. فإن إظهار التكفير لأحد من أهل القبلة ممن جاء بمكفر = ليس مقصودا للشريعة ؛ بل مقصودها ظاهر في سَتر ذلك وعدم إظهاره ؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة.
فمن هذه المفاسد: تأثير ذلك على بقية الكفار ممن يُرجى إسلامهم بصدهم عن الدين ، ودل على هذا المعنى ما ثبت عند البخاري في "الصحيح" (6/154) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حين قال عبد الله بن أبي: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ فقام عمر فقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه".
وهذا لا يعني ترك بيان أسباب الكفر ، وفضح مناهج المنافقين من حيث العموم ؛ دون التعرض للأشخاص ؛ كالذي ظهر في سورة التوبة ، وفي كثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن مفاسده : تكفير الناس بعضهم لبعض حتى في أسباب الكفر الخفية الاجتهادية ، وتحول المجتمع المسلم إلى ساحة للحرب التكفيرية ؛ وذلك لأن أسباب الكفر منها ظاهر جلي ، ومنها مشكل خفي ، وفتحُ باب إظهار تكفير أهل القبلة سبب لهذا الاحتراب الخطير، والمتأمل في حال غلاة التكفير المعاصرين ـــ حين تركوا منهج النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ــــ أنهم انغمسوا في التكفير وانشغلوا به ، حتى وصل الأمر بهم إلى تكفير بعضهم بعضا ؛ بل فعلوا ذلك وهم في أعالي الجبال يقاتلون الحكومات التي رأوها كافرة ؛ فكيف يكون حال المجتمع في تمزقه وتشظيه وتوتره إذا بلغ الأمر إلى هذا الحد؟
وقد ظن البعض أنه لا يكون مؤمنا ، ولا ممتثلا لمقتضيات الإيمان إلا إذا كفَّر من قام به هذا الوصف من أهل القبلة بأعيانهم ، وهذا خطأ عظيم ؛ فإن المقصود الأكبر لهذه النصوص هو الإعذار والإنذار إلى من كفر ، والإعذار والإنذار من أظهر سمات الكتب السماوية ، ومن أعظم مهام الرسل ؛ كما قال تعالى : "رسلا مبشرين ومنذرين" ولما رواه البخاري في "الصحيح" (9/123) عن المغيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «..ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين».
ولهذا لم يُقم النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة على أحد من أهل القبلة ، رغم كثرة المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم ، ورغم وجود أسباب الكفر في كثير منهم.
ولم يكن ترك إظهار كفرهم كما ظن بعض أهل الأهواء من المرجئة القدامى والمعاصرين بسبب أن وصف الكفر لا يقوم مطلقا بمن شهد الشهادتين ؛ وإنما كان السبب ما ذكرناه من المفاسد.
فإن قيل : لم عقد فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم أبوابا كاملة لأحكام الردة ؟
فالجواب : أن هذا إنما هو للقاضي إذا أصر مثل هذا على كفره؛ فلم يرجع عنه ، ولم يتأوله بما يحتمل التأويل ، وهذا لا يكاد يقع في مجتمع للقاضي فيه القدرة على الحكم بالشريعة ، أي أن منافقي المجتمعات المسلمة المحافظة لا بد عند مواجهتهم من رجوع أو تأويل .
وقد عقد الفقهاء أبوابا لحد السرقة والزنا ، ولا يكاد يُحكم بذلك ؛ لعدم البينة ، أو بسبب رجوع المقر بهما عن إقراره.
بل إن الهدي النبوي أجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهر ؛ فالتوارث كان قائما بين المسلمين والمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ورَّث عبدالله بن عبدالله بن أبي سلول من والده المنافق معلوم النفاق؛ كما قرره ابن القيم في "أحكام أهل الذمة" (2/855) كما لم يُنقل أنه أجرى بقية أحكام الكفار عليهم ؛ كفسخ زوجاتهم حسبة ، أو نهي سائر المسلمين عن الصلاة عليهم ، أو دفنهم في مقابر غير المسلمين ، أو تحريم ذبائحهم ؛ رغم كثرة مخالطتهم للمسلمين . والله أعلم.