التحاكم إلى المحاكم الوضعية
فتوى رقم : 12504
مصنف ضمن : الإيمان
لفضيلة الشيخ : سليمان بن عبدالله الماجد
بتاريخ : 13/08/1431 11:28:52
س: شيخنا فضيلة الشيخ سليمان الماجد حفظه الله تعالى .. لدي بعض المسائل أسأل الله تعالى أن تكون سببا فى إيضاحها، وإزالة الالتباس والفرقة الحاصلة بسببها:
قرأت لفضيلتكم فتوى بخصوص التحاكم للمحاكم الوضعية فى ظل غياب المحاكم الشرعية، ثم حصل اختلاف شديد فى حكم المسألة عندنا، حتى إن بعض الإخوة حصل لديه وسوسة فى أنه قد كفر لتحاكمه، فهل هذه المسألة من مسائل الخلاف المعتبر أم أنه لا يوجد فيها خلاف أصلا، وأن التحاكم في ظل غياب المحاكم الشرعية لا صلة له بالشرك، وعلى ماذا يحمل كلام الشيخ ابن سحمان - رحمه الله تعالى - بقوله: فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك التحاكم، انتهى. وكيف نجمع بين التحاكم للقوانين الوضعية والكفر بها فى آن واحد؟
ج: الحمد لله أما بعد .. فإن هذا هو نص الجواب السابق:
يحتاج المسلم في فصل الخصومات في ظل دول كافرة، أو في ظل دول تحكم شعوباً مسلمة بأحكام وضعية إلى معرفة حكم اللجوء إلى محاكم هذه الدول.
فنقول: إن أمكن التحاكم إلى من يحكم بالشريعة، ويقر بوجوب تحكيمها، وأنها المصدر الوحيد للتشريع؛ فيحرم في هذه الحال اللجوء إلى المحاكم التي لا تقر بوجوب التحاكم للشريعة.
ويكون ذلك بتحكيم من يصلح للفصل في هذه الخصومة.
وإن كان ذلك متعذراً فلا يخلو الأمر من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون ما يطالب به المدعي مما لا تقره الشريعة؛ ففي هذه الحال لا يجوز أن يُلح على المطلوب بالسؤال فضلاً عن التحاكم إلى مثل هذه المحاكم؛ بل إن هذا من التحاكم إلى الطاغوت الذي قال الله فيه: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا" [النساء:60]. وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه يكون بذلك –مع علمه ببطلان مطالبته- مرتداً.
ومثل ذلك في الحكم: إذا كان المتقدم لا يعلم أن ما يطالب به صحيحاً في الشريعة أو غير صحيح، وعليه عند جهله أن يسأل أهل العلم قبل تقدمه إلى هذه المحاكم.
الحال الثانية: أن يكون ما يطالب به مما تقره الشريعة، ويحكم به قانون هذا البلد دون زيادة؛ ففي هذا الحال لا حرج أن يتقدم المسلم إلى محكمة هذا البلد ليطالب بحقه، ولا يُعتبر هذا من التحاكم إلى الطاغوت؛ لأن المتقدم إنما يأخذ حقه الذي أقرته الشريعة فقط، وهذا من شريعة الله، ومحكمة البلد إنما صارت وسيلة لتنفيذ أحكام الشريعة فقط؛ وذلك مثل استخدام الكفار في المحاكم المسلمة لتنفيذ الأحكام الشرعية في الشُرَط ونحوها.
ولو قلنا بغير ذلك للزم من ذلك حرج عظيم وضياع للحقوق كبير حتى في بلدان الشعوب المسلمة التي تُحكم بغير الشريعة؛ إذْ لا فرق عندي بين كافر أصلي ومنتسب إلى الإسلام كلاهما يحكم بغير حكم الشريعة؛ فإذا لم نقل بهذا ضاعت الحقوق، وتسلط الظلمة على الصالحين.
وإن كان المتقدم يعلم أن هذه المحكمة تحكم بأكثر مما يستحقه المتقدم ففي هذه الحال يجوز التحاكم إليها، وعليه عند التنفيذ أن لا يأخذ إلا ما يستحقه فقط.
وأقترح على المسلمين في مثل هذه البلاد أن ينشئوا مراكز متخصصة للتحكيم يقضي فيها فقهاء في الشريعة يكون حكمها ملزماً في حال تراضي الخصمين بتحكيمها –حتى في القوانين-، وفي حال امتناع أحد الخصمين من التحكيم فتصدر رأيها وفق المعطيات التي تقدم بها الخصم الآخر؛ لتكون مسوغًا له للجوء إلى المحاكم الوضعية لتحصيل حقه الثابت له في الشريعة؛ فهذه المراكز تؤدي غرضين:
الأول: التحكيم في حال التراضي.
الثاني: إعطاء المسلم ما يثبت حقه على سبيل الفتوى؛ ليعلم هو منها أن له مطلباً صحيحاً، وليقي بها عرضه من الطاعنين.
وفي مسألتنا هذه يقال: إذا لم يمكن الأخ السائل أن يُحكِّم مسلماً فتنطبق عليه الحال الثانية؛ لأن وجوب رد القرض مما وافقت فيه القوانين شرعيةَ الإسلام؛ فلا حرج من تقدم السائل لمحكمة هذا البلد لتحصيل حقه. والله تعالى أعلم.
وجوابا عن سؤالك الأخير أقول : إن المسألة اجتهادية ، ولكنها على التفصيل المذكور ظاهرة في الجواز في صورة مطالبة المسلم بما هو صحيح في الشريعة .
ووجه ذلك أن مقصود الشريعة في منع التحاكم إليهم هو أن لا يحكم إلا بما أنزل الله ، وهنا لم يطالب المسلم إلا بما هو حق له في شريعتنا ، وما زاد وجب تركه أو رده ؛ فهنا حصل مقصود الشريعة من تطبيق حكمها ، وحصل العدل برد المظلمة إلى أهلها .
وقد رجعت إلى كلام ابن سحمان رحمه الله ، وسياقه في كون الحكم الصادر من هذه المحاكم بغير الشريعة ، وأن المتقدم إليها سيأخذ ما ليس له ، وهو ما سماه رحمه الله "شرع الرفاقة" .