@هل يعاقب من أراد المعصية ولم يفعلها تكاسلاً أو عجزاً؟
فتوى رقم : 10744
مصنف ضمن : الرقائق والأذكار والأدعية
لفضيلة الشيخ : سليمان بن عبدالله الماجد
بتاريخ : 29/01/1431 03:34:25
س: من أراد فعل معصية ولم يفعلها سواء كان تكاسلا أم عدم تمكن هل يأثم؟
ج: الحمد لله أما بعد .. من هم بفعل المعصية ثم تركها فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يتركها خوفاً من الله تعالى، أو رجاء ثوابه: فله حسنة؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا هم العبد بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة"، وفي رواية: "فإن تركها فاكتبوها له حسنة؛ فإنما تركها من جرائي".
الثانية: أن يتركها لعجزه عنها وعدم تمكنه منها؛ ففي هذه الحال لا أجر له؛ لقوله: "فإنما تركها من جرائي" فرتب الحسنة على تركها خوفا أو رجاء، وهذا إنما تركها عجزا ، وقد ثبت الأجر له في الحديث القدسي لأنها تركها لله وهو إنما تركها عجزا.
وهل يأثم في هذه الحال الثانية؟
فيه خلاف ، والأقرب من أقوال العلماء أنه إن كان هما وحديث نفس لا عزم فيه فلا إثم عليه فيه، وعلى ذلك يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" رواه الشيخان من حديث أبي هريرة ؛ فحديث النفس يقع بأشياء كثيرة من أمر الدنيا أو الآخرة ، وربما لو تمكن المرء من الفعل في خلوة لارتعدت فرائصه؛ بخلاف صاحب النية الجازمة التي لا يمنعها إلا العجز فنفسه متهيئة لذلك ، وكذلك ما كان بإرادة جازمة ولكنه تركها لله فأجره ثابت ؛ للحديث : "فإنه إنما تركها من جرائي".
وإن كان بإرادة عازمة لم يمنع منها إلا العجز أو الخوف من نظر الناس فهو آثم بها، وهذا هو قول أحمد، وهو اختيار ابن تيمية، ونسبه القاضي عياض إلى أكثر العلماء؛ كما في "شرح مسلم" (2/151) .
ويدل على ذلك ما يلي:
الأول: ما ثبت في حديث أبي كبشة الأنماري مرفوعا: "ثلاثة أقسم عليهن .." وفيه : "إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء" .
ولو قال أحد : إن "القول" هنا هو سبب الإثم ؛ حيث تكلم بذلك ؛ فالجواب : أن القول هنا هو النية ؛ كقول المرء : فقلت : أي في نفسه ، وكذلك قوله في الحديث : "يقول" تفسير لقوله : "فهو صادق النية" وهو ما يقع في النفس من العزم ، ولهذا قال : "فهو بنيته فوزرهما سواء" فرتب الإثم على النية .
ومما يؤكد ذلك في الذي "رزقه الله علما ولم يرزقه مالا" أنه من المعلوم أن المرء لا يُمدح بذكر أماني الخير ؛ بل هي بضائع الفارغين ، كما أن الناس ينتقصون عقل من يتحدث بأمانيه فكيف يُمدح ويؤجر هنا ؛ ما يؤكد أن الإثم أو الأجر يحصلان بمحض النية العازمة ؛ ولو دون عمل .
الثاني: أنه قد جاء نحو ذلك في الشريعة من حصول النفاق في القلب ، والمحاسبة عليه ؛ حيث إن المنافق يخرج من الإيمان الاعتقادي بمجرد هذه النية الجازمة ؛ إذا انعقد قلبه على إنكار الباري أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو محبة هزيمة المسلمين دون معارض ؛ فالنفاق محله القلب ، ومع ذلك يحاسب عليه المرء ، بل يكون من أهل الدرك الأسفل من النار ؛ رغم عدم وجود قول ولا عمل.
الثالث: أن هذا سار حتى على الحسنات ؛ فالنية هي الإرادة الجازمة التي لا يمنع من القيام بها إلا العجز عنها ، وليست حديث النفس والأماني ، وقد ثبت في المسند من حديث خريم بن فاتك مرفوعا : "الناس أربعة والأعمال ستة .." وذكر الحديث ، وفيه : ".. ومن هم بحسنة فلم يعملها - قد علم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها - كتبت له ، ومن عمل حسنةً كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق في سبيل الله كانت له بسبعمائة ضعف".
فلعلك لحظت في حديث خريم أن القاعدة سارية في ثبوت الأجر باعتبار النية الجازمة العازمة التي لا تردد فيها حتى في نية الحسنات ، لا مجرد الهم والخطرة .
الرابع: بطلان العمل الصالح بمجرد النية التي أراد به العامل غير الله ، وهذا في حقيقته محاسبة ومؤاخذة على النية ولو دون عمل ؛ فالإثم والبطلان كانا بسببها ، ولا يُقال: إنه عَمِل فحصلت المؤاخذة ؛ فيُجاب عنه بأن العمل في الأصل عمل صالح ، ولا يُمنع المرء من فعله بمجرد هذه النية ، ولا يزال العلماء ينهون عن ترك العمل خوف الرياء ؛ بل يدعون إلى العمل ، وأن يجاهد المرء نفسه على الإخلاص ؛ فثبت بهذا أن المؤاخذة على النية الفاسدة ؛ ولو لم يصحبها عمل .
الخامس : أن حقيقة العبودية لله تعالى في الفعل والترك هي في عمل القلب ، وأن الجوارح مجرد ممتثلة لأمر القلب صلاحا أو فسادا ، وأن العمل ينقلب بها إلى صالح أو فاسد بحسب صلاح النية وفسادها ، ولهذا قال العلماء : من عمل صالحا في ظاهره بنية فاسدة فعمله فاسد ، ومن عمل فاسدا في ظاهره باجتهاد بنية حسنة فهو مأجور؛ فكيف يحصل كل من الإثم والأجر بمجرد العمل دون اعتبار للنية ورسوخها في القلب رغم أنها الأصل؟
ولهذا رتب الله الأجر على إرادة الخير ، والإثم على إرادة الشر كما جاء في القرآن في مواضع عدة ، منها قول الله تعالى "مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" .
فتلخص من هذا أن المرء لا يحاسب على الخاطرة والهم اللذين لا عزم فيهما ، وإنما يُحاسب على النية العازمة ؛ ففي الحسنة بالأجر ، وفي السيئة بالإثم .
ويُؤكد هنا أن لهذا الترجيح آثاراً في عمل القلب والجوارح :
أما آثارها في الجوارح فوجوب التوبة والاستغفار من النية العازمة التي لم يمنع منها إلا العجز عنها ؛ فربما اجتمع للمرء من هذه النوايا المردية ما يكبكب بها في النار على وجهه نسأل الله السلامة ، وكان ذلك بسبب عدم توبته منها ، وتماديه فيها ؛ لاسيما في أزمان الفتن وكثرة المغريات وإلف الناس لها ؛ مما يؤدي إلى كثرة الران على القلوب ثم إلى طمسها .
وأما في عمل القلب فأثرها الحزم مع هذه الخطرات الفاسدة التي تطوع القلب للشيطان وهوى النفس ؛ فيصير أسود مرباد لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، فتحيله خرابا يبابا، وسبب ذلك هو ترك هذه الخواطر دون علاج ؛ بل يظن البعض أنه مأجور بها حين لم يعملها ؛ فيمده الشيطان بسبب ذلك في الغي .
ومن آثارها أن يُحي قلبه بالنيات الحسنة جازما بها ؛ فإنها تهيئ نفسه لسرعة الاستجابة عند التمكن من فعلها ؛ فيسلم من البخل بالمال والعمل .
والله أعلم .