الرئيسة    الفتاوى   شروط الصلاة   الإبراد بالظهر وقت قصير لا يتجاوز ما عليه وقت إقامة الصلاة في تقويم أم القرى

الإبراد بالظهر وقت قصير لا يتجاوز ما عليه وقت إقامة الصلاة في تقويم أم القرى

فتوى رقم : 1475

مصنف ضمن : شروط الصلاة

لفضيلة الشيخ : سليمان بن عبدالله الماجد

بتاريخ : 23/07/1429 13:20:00

س: هل الإبراد بالظهر غير مسنون بالنسبة لوقتنا هذا لوجود المكيفات؟ وهل للمرأة الإبراد بالظهر في بيتها؛ أم أن الأمر خاص بالرجال؟

ج : الحمد لله وحده أما بعد..
خلاصة الجواب:
أن الإبراد بالظهر ، وهو تأخير الصلاة عن أول وقتها مستحب .
وأما مقدار التأخير فسيأتي.
وأقوال العلماء في علة الإبراد اثنان :
الأول : أن علته أن لا توقع الصلاة قرب تسعير نار جهنم ؛ فتؤخر قليلا عن وقت تعامد الشمس في كبد السماء فقط ، وهو وقت قصير ، يقدر بما يقارب ثنتي عشرة دقيقة بعد الزوال ؛ فيكون الحكم تعبديا لا يُعقل معناه على التفصيل.
مع العلم أن الصلاة وقت التعامد محرمة ، وهي من وقت النهي المغلظ .
القول الثاني: أن علته تأذي الناس بالحر ، في المسجد ، أو في الطريق إليه ؛ قولين لمن رأى أن العلة معقولة المعنى ، ورأوا أن تكون الصلاة قبيل نهاية وقت الظهر ؛ لأن شدة الحر تكون عند التعامد ، وهي قبيل العصر قد ابتعدت أكثر عن وجه الأرض فتكون أقل حرارة.
والصحيح هو القول الأول ؛ لما يلي :
1.أنه قد ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في الهاجرة أي شدة الحر في وسط النهار.
2.أنه صلى الله عليه وسلم لم يجب الصحابة إلى شكواهم من الحر.
3.أنه بحسب قول أهل الخبرة وواقع الحال فإن حرارة وجه الأرض تستمر في الارتفاع بعد الزوال حتى تصل ذروتها الساعة الثانية والنصف ظهرا، وتستمر في هذه الذروة إلى قريب من وقت العصر .
فلو كان المقصود دفع أذى الحر عن الناس لاقتضى الأمرُ أن تكون الصلاة بعد الزوال مباشرة؛ لأن الحر عند الزوال أخف منه آخر وقت الظهر بدرجتين أو ثلاث ؛ مما يدل على أن المقصود هو الإبراد عن الصلاة وليس عن المصلين .
4.أن صلى الله عليه وسلم أمر بالإبراد في السفر ؛ حيث كان الطريق ومحل الصلاة تحت أشعة الشمس ؛ مما ينتفي معه إرادة الانتفاع بظل الحيطان ؛ فلم يظهر بهذا أن المصلي هو المقصود؛ وإنما المراد الصلاة نفسها.
فحين انتفى معنى تأذي الناس بالحر = لم يبق إلا الأمر التعبدي الغيبي.
5.أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر صلاة الظهر إلى آخر وقتها في الحضر في شدة الحر ، ولو كان يفعل ذلك كل يوم وقت شدة الحر لنُقل ؛ لأنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ؛ فلما لم يُنقل عُلم أنه غير موجود ، وهذا دليل أثري.
6.أن بلالا حين أذن في سفر في شدة الحر مع أول وقت الظهر قال له صلى الله عليه وسلم: أبرد ؛ فمن الظاهر أنه لم يترك الرواحل مرتحلة ، والمسافرين وقوفا ينتظرون بدء انكسار الحر في الأجواء السفلى أكثر من ساعتين - على اعتبار صحة القول بأن الحررة تقل بعد الزوال - مما يكون معه أعظم المشقة ، كل ذلك يدل على أنه إنما حبسهم وقتا قصيرا جدا.
وحد الإبراد أن يكون الظل ظاهرا للجميع ؛ لقول أبي ذر في الحديث المذكور: أَبْرَدَ في الظهر حتى رأينا فيء التلول ، ثم أقام فصلى ، وترْكُ الصلاة حتى يظهر فيئ التلول يتحقق في حدود ثنتي عشرة دقيقة.
ونقل ابن رجب عن بعض السلف بأن قدره أربعون آية ، وقد حُرزت بثنتي عشرة دقيقة .
وهذا هو قول سفيان الثوري ، واختيار ابن رجب .

التفصيل :
ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبرد"، ثم أراد أن يؤذن؛ فقال له: "أبرِد"، حتى رأينا فيء التلول؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة" .
وقد اختلف العلماء في علة الإبراد على قولين:
الأول : أنه لأجل تأذي المصلين من الحر في الطريق إلى المسجد ، أو أثناء الصلاة ، وقالوا في حكمة ذلك أنه الرفق بالناس ، أو المحافظة على الخشوع في الصلاة .
واستدلوا لقولهم بما دلت عليه كلمة "الإبراد" .
الثاني : أنه تعبد لا يعقل معناه ، والمقصود منه أن لا تؤدى الصلاة قرب تسعير جهنم ؛ بل تؤخر قليلا عن ذلك حتى يكون ظل الأشياء ظاهرا.
واستدلوا لذلك بحديث جابر بن عبدالله قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة . رواه الشيخان .
وأصحهما هو القول الثاني ؛ وذلك لوجوه :
1.ثبوت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في شدة الحر في جمع من الأحاديث منها:
حديث جابر المذكور.
ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنا نصلي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدُنا أن يُمكِّنَ جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه . أخرجه البخاري ومسلم .
وفي رواية النسائي قال: كنا إذا صلينا خلف النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالظَّهائِرِ ، سجدنا على ثيابنا اتِّقاءَ الحرِّ .
قال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" (1/94) : الهاجرة : هي شدة الحر بعد الزوال ، وقال في "المصباح" : الهاجرة نصف النهار ، في القيظ خاصة.
ولو كان المقصود ما يصيب الناس من الحر لما صلى في الهاجرة .
ومنها ما ثبت في حديث خباب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال : شكونا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يُشْكِنا . قال زهير : قلت لأبي إسحاق : أفي الظهر؟ قال : نعم ، قلت : أفي تعجيلها؟ قال: نعم . رواه مسلم في "صحيحه" :(1/433) .
قال ابن رجب في "فتح الباري" (3/81) ( .. وفيه دليل على أن صلاة الظهر كانت تصلى في حال شدة حر الحصى الذي يسجد عليه ) أهـ .
وما أجاب به بعض أصحاب القول الأول عن هذه الأحاديث من القول بنسخها بأحاديث الإبراد ففيه نظر ؛ لأن الجمع ممكن ؛ فكيف يُصار إلى النسخ الذي هو إهمال أحد النصين دون ضرورة ؟
ففي هذه الأحاديث دليل على أنه لم يكن يبرد بالصلاة إبرادا تذهب معه شدة الحر؛ وحيث لم تثبت معقولية المعنى فلم يبق إلا التعبد .
2.ما عُديت به كلمة الإبراد من حرف الجر (عن) في قوله عليه السلام : "فأبردوا عن الصلاة" حيث يدل ذلك على أن مقصود الإبراد كراهة الصلاة في هذا الوقت؛ لا معنى تأذي المصلين بالحر .
ولا يرد على هذا ما جاء في الرواية الثانية التي عُديت فيها كلمة الإبراد بالباء في قوله صلى الله عليه وسلم : "فأبردوا بالصلاة" ؛ وذلك لأنها تأتي بمعنى عن ؛ كقوله تعالى : "فاسأل به خبيرا"، أي : اسأل عنه ، والتعدية بعن معنى زائد يجب الأخذ به ، ويُحمل عليه ما قصر عنه.
3.من حيث المعنى وواقع الحال والسنة الكونية التي لا تنخرم: أنه من المعلوم عند أهل الخبرة: أن الحر في الأرض يشتد بعد الزوال ؛ لا أنه يخف ؛ حتى كان المعتمد عند المتخصصين في الرصود الجوية ــــــ كما أفادنيه أحدهم ـــــ أن أعلى درجة للحرارة في النهار تُسجل رسميا : تكون في الساعة الثانية والنصف ظهرا ، وتستمر على ذلك إلى دخول وقت العصر ، ثم تبدأ بعد ذلك بالتناقص.
ويقرر الخبراء أن الحرارة التي تخترق الغلاف الجوي تبلغ ذروتها مع الزوال ، وأما الحرارة المختزنة في الأرض فإنها تظل في الارتفاع إلى ما بعد الساعة الثانية بقليل ، ثم تبدأ الحرارة المختزنة بعد ذلك بالانخفاض .
وهذا ملموس حتى من غير المتخصصين .
فلو كان المعنى تأذي الناس بالحر ؛ لكان المناسب العقلي أن يُعجل بالصلاة بعد الزوال مباشرة وقبل اشتداد الحر الذي يتزايد ؛ حتى تصل ذروتُه الساعة الثانية والنصف ظهرا .
فهنا ثبت أن المقصود أمر غيبي تعبدي وهو الكف عن الصلاة استحبابا لمعنى تسعير نار جهنم؛ لا تأذي الناس بالحر .
قال ابن تيمية في "شرح العمدة" (1/198) : (فلما قال: "فإن شدة الحر من فيح جهنم" ، وعلل بعلة تعلم بالوحي عُلِم أنه قصد معنى يخفى على أكثر الناس ؛ وهو كراهة إيقاع الصلاة حال تسعير النار ؛ كما كره إيقاعها وقت مقارنة الشيطان لها) .
4.أنه قد جاء في حديث أبي ذر المذكور الأمر بالإبراد وكان ذلك في سفر؛ فالطريق ومحل الصلاة كانا تحت أشعة الشمس ؛ فلم يظهر بهذا أن المصلي هو المقصود ؛ وإنما هو الصلاة ؛ فانتفى بذلك معنى تأذي الناس بالحر ؛ أو إرادة الانتفاع بظل الحيطان ؛ فلم يبق إلا التعبد.
5.قوله صلى الله عليه وسلم : "فإن شدة الحر من فيح جهنم" فقد كان في سياق التعليل ، وليس وصفا كاشفا للحال ؛ فإن شدة الحر معلومة للناس .
وقد ثبت عند النسائي من حديث أبي موسى مرفوعا : "أبردوا بالظهر فإن الذي تجدون من الحر من فيح جهنم" ، وهذه الرواية أظهر في أن السبب هو تسعير النار ، وأن الإبراد عن الصلاة لا عن المصلين .
وكذلك ما دل عليه حديث أبي هريرة عند مسلم في "صحيحه" مرفوعا : "إذا كان اليوم الحار فأبردوا بالصلاة . فإن شدة الحر من فيح جهنم".
وقد جاءت رعاية شدة حر النار في حديث عمرو بن عبسة مرفوعا : "فإذا اعتدل النهار فأقصر يعني عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها جهنم" رواه مسلم .
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/207) : ( .. فأخبر أن شدة الحر من فيح جهنم ، وهذا موافق لقوله : "فإنه حينئذ تسجر جهنم" ) فجعل رحمه الله علة النهي عن الصلاة مع الزوال ؛ كعلته في الإبراد ؛ والأول تعبدي بالإجماع .
وقال العراقي في "طرح التثريب" (2/201) عن أحاديث الإبراد وشكوى الصحابة من الحر : ( .. ولم نجد عنهم أنهم شكوا مشقة المسافة ، ولا بعد الطريق . ويمكن أن تكون العلة في ذلك أنه وقت يفوح فيه حر جهنم ولهيبها ، وهو ظاهر قوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم" . وكونها ساعة يفوح فيها لهب جهنم وحرها يقتضي الكف عن الصلاة ) أهـ .
وقال ابن رجب في "فتح الباري" (4/242) : في شرح حديث الإبراد: (..وهذا يدل على أن شدة الحر عقيب الزوال من أثر تسجرها، فكما تمنع الصلاة وقت الزوال، فإنه يستحب تأخرها بعد الزوال حتى يبرد حرها ويزول شدة وهجها؛ فإنه إثر وقت غضب، والمصلي يناجي ربه، فينبغي أن يتحرى بصلاته أوقات الرضا والرحمة، ويجتنب أوقات السخط والعذاب، وعلى هذا فلا فرق بين المصلي وحده وفي جماعة - أيضا.) أهـ.
فيكون النهي عن صلاة الظهر في وقتين:
الأول : وقت قائم الظهيرة ، وهو تعامد الشمس في كبد السماء ، قبل وجود أي ظل، وهو على التحريم ، مع القول ببطلان الصلاة .
والثاني : بعد الزوال ، وقبل أن تكون الأفياء ظاهرة ، وهو على الكراهة ؛ فتكون السنة في الإبراد هي في تأخيرها بعد الزوال قليلا.
6. أن سنته صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر هو تعجيلها بعد الزوال مباشرة؛ فكان يخالف هذه السنة في الحر بتأخيرها عن التعجيل قليلا ؛ رعاية لهذا المعنى ، وقد صح التعجيل في جملة من الأحاديث منها:
ما ثبت في الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت أحدا كان أشد تعجيلا للظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أبي بكر ولا من عمر .
وعن أبي مسعود أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر حين تزيغ الشمس , وربما أخرها في شدة الحر.
7. أن هذا ما جرى عليه فهم الصحابة ففي حديث أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة ، رواه البخاري.
وبوب عليه بقوله : (باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة ).
وقد استشكله القائلون بمعقولية المعنى وأن الإبراد مشروع لأجل تأذي الناس بالحر ؛ وسبب الإشكال أن الناس يأتون الجمعة مبكرين؛ ففي تأخيرها زيادة في المشقة بتعرضهم للحر أثناء انتظار الصلاة ، وهذا ينافي ما اختاروه من أن المقصود بتأخير الصلاة هم المصلون لا الصلاة.
والصحيح أنه لا إشكال في ذلك ؛ فمع القول بأن الأمر تعبدي = يكون الإبراد مشروعا حتى في صلاة الجمعة ؛ لأنه وقت قصير جدا ؛ فعليه لا ينبو حديث أنس عن سمت بقية الأحاديث؛ فلا نحتاج إلى تكلف الإجابة عنه .
وكان مما أوردوه : أن قوله : (يعني الجمعة) متردد أن يكون من كلام خالد بن دينار الراوي عن أنس ، أو ممن بعده ، ومقصود إيرادهم أنه ليس قولا لأنس .
يقال : سواء كان ذلك من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في الجمعة ، أو قياسا من أنس ، أو فهما من الراوي فإن أقل الأحوال أن يكون فهما من السلف ، ولم يُعرف له مخالف ؛ فيكون قرينة في فهم أحاديث الإبراد.
والخلاصة من هذا الوجه أن شرعية تأخير الصلاة يوم الجمعة بعد الزوال قليلا رغم أنه إحرار لا إبراد = دليل على أنه تعبد ؛ وليس لمعنى التأذي بالحر.
8. ما دلت عليه السنة التركية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ترك التأخير إلى ما بعد الساعة الثانية والنصف أو قريبا من العصر ؛ إذْ لو كان يؤخرها هذا التأخير طيلة زمن شدة الحر في مثل مناخ المدينة والتي تزيد على شهر لنُقل ، لاسيما وأنه يدعو ـــ لو كان واقعا ــــ إلى تغيير مواقيت صلاة الظهر إذا حلَّ هذا الموسم الحار ، وهذا كله لو كان يقع كل سنة لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ؛ فدل على أنه غير موجود، وقد نُقل في السفر العارض فكيف لا ينقل في الحضر الدائم؟
إيراد وجوابه:
ثبت عند البخاري في "الصحيح" (1/128) في بعض ألفاظ حديث أبي ذر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال له: "أبرد" ، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: "أبرد" ، ثم أراد أن يؤذن، فقال له: "أبرد" حتى ساوى الظل التلول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شدة الحر من فيح جهنم" .
فقد يقول قائل : إن قول أبي ذر : (حتى ساوى الظل التلول) يدل على التأخير الكثير ؛ فالجواب من وجهين:
الأول: (يحتمل أن يراد بهذه المساواة ظهور الظل بجنب التل بعد أن لم يكن ظاهرا ؛ فساواه في الظهور لا في المقدار) ذكره ابن حجر في "فتح الباري" (2/21) .
الثاني: ترجيح رواية (حتى رأينا فيء التلول) على رواية : (حتى ساوى الظل التلول) لما ذكرته في أوجه الترجيح الماضية من أن الوقت كان قصيرا جدا .
وقد جاء اللفظ الأول وهو قوله : (حتى رأينا فيء التلول) من وجهين عن شعبة ، والثاني المشكل كان من وجه واحد فقط ؛ كما ذكره ابن رجب في "فتح الباري" (5/362).
إيراد آخر وجوابه:
لو قال قائل : حيث قلتم إن الحر يزيد بعد الزوال أكثر منه عند الزوال ؛ فلِمَ لم يصل بعد الزوال مباشرة .
والجواب: أن شدة الحر بالنسبة للشمس على الأرض هي عند الزوال ؛ لكونها أقرب ما تكون إلى الأرض فهي عند الزوال أقرب إلى تسعير نار جهنم ؛ فاُستحب أن تؤخر قليلا تعبدا وقت شدة التسعير؛ وليس لأجل الحر المتزايد الذي يجده الناس على وجه الأرض بعد الزوال.
وقد ذكر تلك العلة ابن رجب وابن تيمية والعراقي في كلامهم المنقول آنفا ، والمتضمن أن علة التأخير أن لا توقع الصلاة قرب شدة تسعير نار جهنم.
حد الإبراد :
حده أن يكون الظل ظاهرا للجميع ؛ لقول أبي ذر في الحديث المذكور: أَبْرَدَ في الظهر حتى رأينا فيء التلول ثم أقام فصلى .
فقوله : "حتى رأينا فيء التلول" دليل على أن ذلك في أول رؤيته ، وحتى تُلحظ الأفياء بعد الزوال فإن الوقت قصير جدا قد لا يتجاوز بضع عشرة دقيقة .
وقد كان أداؤه عليه السلام صلاة الظهر على أول وقتها بعد الزوال مباشرة كما تقدم، وحين أمر في سفره بالإبراد في شدة الحر في حديث أبي ذر وغيره فمن الظاهر أنه لم يترك الرواحل مرتحلة ، والمسافرين وقوفا ينتظرون بدء انكسار حر الأجواء السفلى أكثر من ساعتين ، مما يكون معه أعظم المشقة على المسافرين في الوقت الحاضر ؛ فكيف بوقته صلى الله عليه وسلم؟ كل ذلك يدل على أنه حبسهم وقتا قصيرا حتى تبدو الأفياء؛ كما دل عليها ظاهر حديث أبي ذر .
قال ابن رجب في "فتح الباري" (3/72): ( .. قوله "حتى رأينا فيء التلول" يعني : حتى مالت الشمس ، وبعدت عن وسط السماء ، حتى ظهر للتلول فيء ) أهـ .
وقال فيه (3/81) : (.. كان يبرد بالظهر إبراداً يسيراً حتى تنكسر شدة الحر ، ولم يكن يؤخرها إلى آخر وقتها حتى يبرد الحصى ) أهـ كلامه .
وذكر عن سفيان الثوري في صلاة الظهر قوله : (كان يُستحب أن يُمهل المؤذن بين أذانه وإقامته في الصيف مقدار أربعين آية ، وفي الشتاء على النصف منها ) أهـ .
ومقدار الأربعين آية لا يتجاوز كثيرا ثنتي عشرة دقيقة .
فتلخص من هذا، ويُبنى عليه ما يلي:
1.أن الإبراد تعبد محض لا يُعقل معناه، وهو تأخير الصلاة وقتا يسيرا حتى لا تقع قرب شدة تسعير نار جهنم، وإنما كان تعبدا غير معقول المعنى لأجل أن المناسب العقلي هو المبادرة إلى الصلاة خوفاً من حر جهنم؛ كما أن المناسب العقلي أيضا أن تُصلى في أول الوقت ، قبل أن تزداد حرارة وجه الأرض ؛ فلما أن خالف معقول المعنى معروف العلة = كان تعبداً .
2.أن وقت الإبراد قصير جداً، وما عليه الناس اليوم من تأخير إقامة الظهر عن الزوال بـ خمس عشرة دقيقة أو عشرين كاف في تحقق الإبراد الشرعي .
3.مشروعية الإبراد بالظهر حتى في المباني المغلقة التي يكون الطريق فيها إلى المسجد، وفي محل الصلاة بارداً، وكذلك في المنازل للنساء والمعذورين.
كما يُشرع الإبراد في البلدان الباردة، إذا كان الفصل يُسمى في منطقتها صيفاً؛ كبلاد السراة ، ونحوها .
وذلك لأن المعنى بقاء شدة تسعير نار جهنم ، وليس لمعنى التأذي من الحر.
قال ابن رجب في "فتح الباري" (3/66) : ( .. وقد بوب البخاري على هذه الأحاديث : "الإبراد بالظهر في شدة الحر" ؛ فدل ذلك على أنه يرى الإبراد في شدة الحر بكل حال ، سواء كان في البلاد الحارة أو غيرها ، وسواء كان يصلي جماعة أو وحده ) أهـ .
يقال : في هذا تأكيد للتعبد ، لا معنى التأذي بالحر .
وقال العراقي في "طرح التثريب" (2/198) : ( .. وقال الشيخ أبو محمد الجويني وغيره : يستحب في البلاد المعتدلة ، والباردة أيضا إذا اشتد الحر )أهـ .
4.أن الإبراد يشمل صلاة الجمعة في أيام شدة الحر.
وما جاء في بعض الأحاديث أن النار تسجر كل يوم وسط النهار إلا يوم الجمعة فلم يثبت منها شيء .
وما عليه بعض خطباء الجوامع هذه الأيام من جعل بداية الخطبة قبل الزوال، وربما جعل الصلاة بعد الزوال مباشرة ليس على الأمر الشرعي باستحباب الإبراد؛ فالمشروع أن تكون الصلاة في شد الحر بعد الزوال بحوالي ثنتي عشرة دقيقة على الأقل .
والقول بمشروعية الإبراد في الجمعة هو قول أنس ، ومذهب البخاري ، وغيرهما .
5.إذا اختلفت الفصول بين البلدان بأن كان الفصل هنا شتاء، ويكون صيفاً في البلد الآخر في نفس الوقت؛ كأقصى الجنوب في أفريقيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية نسبة إلى بلدان الشمال؛ فلكل بلد إبراده .
والله أعلم .